هل تأكل سمكة اللمبوكة الجثث حقا؟
لسنوات عديدة، كانت موجات المهاجرين من جميع الألوان والأجناس تعبر البحر المتوسط إلى السواحل الأوروبية في قوارب غالبا ليست مؤهّلة ولا آمنة بما يكفي لمثل هذه الرحلات. والأكيد أن الكثير منهم لم يصلوا إلى ضفاف الواجهة الأخرى أبدا. مئات من المساكين المفقودين غرقوا ولم يُعْثَر على جثثهم، ومئات آخرون انتُشِلَت بقايا أجسادهم المتحللة لدرجة لا تسمح بالتعرف عليهم. عند سماع مثل هذه الروايات، فإن الكثير من الآدميين ينتابهم نفور عام من الأسماك وتتملكهم قناعة أنها قد أكلت من تلك الجثث؛ الأمر الذي يجعل فكرة وضع واحدة من هاته الأسماك في طبق لتناولها مريعا.
لمبوكة، عنفلوص، ماهي ماهي…
في واقع الأمر، يُنْسَب هذا السلوك بوجه الخصوص إلى سمكة بِعيْنها تَظْهَر في مياه المتوسط أواخر فصل الصيف، وتُسْعد هُواة ومحترفي صيد الأسماك على حد السواء. إنها سمكة اللمبوكة، سمكة من البحار المفتوحة والدافئة، التي يتزيّن جسمها بلون أزرق كهربائي أنيق في الماء، ويتحوّل إلى اللون الذهبي عند نفوقها. هي سمكة كبيرة نسبيا وسريعة النمو، حيث يمكن أن يصل حجمها إلى أكثر من المتر. وهي أيضا ضارية بشهية مفتوحة دائما، إذْ تلاحق حرفيا كل ما هو متحرِّك. أما عملية صيدها، فهي ممتعة ومذهلة بسبب قوتها وسرعتها الشديدتيْن.
تسمى هذه السمكة لمبوكة في أغلب بلدان المتوسط. وربما تعود هذه التسمية إلى كلمة لامبوجا الإيطالية باعتبار أنه كان يتم صيدها منذ العصور الرومانية كما تشهد على ذلك مشاهد الصيد في لوحات الفسيفساء الخاصة بهم. ومع ذلك، فإن اسمها العلمي مشتقّ من اليونانية القديمة حيث تظهر سمكة اللمبوكة في جدارية تعود إلى 1500 سنة قبل الميلاد عُثِر عليها في جزيرة سانتوريني اليونانية. هي نفسها تحمل أسماء أخرى في مناطق أخرى من العالم، مثل ماهي ماهي في جزر هاواي وعنفلوص في الخليج العربي، في حين يطلق عليها أيضا اسم سمكة الحصان أو سمكة الدولفين في نواحي أخرى… ولكن، ما أصل قصة أكل هذه السمكة لجثث الآدميين وغيرها؟

اللمبوكة و الجثث
قد يحدث أن يجد الصيادون، وهم في عرض البحر، جثة تطفو – إن كانت لحيوان نافق رُمِي به من إحدى سفن المواشي أو لإنسان سيء الحظ. في كثير من الأحيان يجد هؤلاء الصيّادون سِرْبا من أسماك اللمبوكة أسفل مثل هذه الجثة. وهم لن يتردّدوا في اصطيادها مادام الأمر ممكنا تقنيا. وعند إنزال صيدهم الوفير في الميناء، دَرَج البحارة على رواية قصص صيدهم بشيء من المبالغة لما في ذلك من مفاخرة بقوّتهم وببطولاتهم عرض البحر. والقاسم المشترك بين الكثير من هذه السرديات هو اصطيادهم لكمية كبيرة من أسماك اللمبوكة كانت تنهش جثة مُقْرِفة ونجاحهم في ذلك رغم بشاعة المشهد والرائحة. وبتواتر مثل هذه القصص منذ أجيال، ترسّخت فكرة أكل اللمبوكة للجثث في المخيال الشعبي لعديد الشعوب، على الأقل في منطقة البحر الأبيض المتوسط، وأصبحت ملازمة لها.
بيْد أنّ واقع الأمر مخالف لذلك. فحتى الآن، ورغم انتشار آلات التصوير والهواتف الذكية، لم يوثِّق أي شخص هذه السمكة وهي بصدد أكل جثّة أي كائن حيّ. وحتى عند تنظيفها إعدادا لأكلها، عادة ما نجد أسماكا صغيرة كاملة أو رخويات كالحبار وفي بعض الأحيان سلاحف حديثة الفقس مثلما يكشف عن ذلك فيديو قصير لقي رواجا في وسائل التواصل الاجتماعي منذ سنوات. ولكن أبدا لم يتحدث أحد عن وجود قطع من أنسجة حيوانية متحللة، أو بشرية. فَعَلَام تتغذى سمكة اللمبوكة إذن ولماذا تتجمَّع تحت الجثث؟
الخصائص التشريحية للمبوكة
عند فحصنا لجسد سمكة اللمبوكة عن قرب، نلاحظ قشورا دقيقة تغطي جلدها وتجعله أمْلَس. لهذه السمكة بنية عضلية طويلة وانسيابية، تنتهي بذيل كبير نسبيا على شكل سهْم. وتمتد على طول الظهر والبطن زعانف عريضة. كما تعتبر الزعانف الصدرية كبيرة أيضا. وللمبوكة عيون كبيرة وفم واسع وخياشيم ممتدة توفر لها كميات هامة من الأكسجين. كلّ هذه الخصائص توحي بحيوان قوي وسريع ودقيق الحركة. وعند مشاهدتها في محيطها الطبيعي، نفهم أننا إزاء صيادة ضارية بإمكانها ملاحقة أسماك السردين وحتى الأسماك الطائرة والتهامها بسهولة. ولكن غريزة الصيد والمطاردة لدى اللمبوكة تدفعها لملاحقة كل شيء يتحرك، ما يجعل صيدها سهلا باستعمال طعم بلاستيكي على شكل سمكة صغيرة، أو حتى حزمة ريش طيور تلف حول شصّ متوسط الحجم. يكفي أن تلاحظ السمكة حَرَكة الطعم حتى تنقضّ عليه بشراسة.
شكل فم السمكة يؤيد أيضا فكرة السمكة الصيادة، فهو كبير واسع تدعمه فكوك قوية وينتهي ببلعوم عضلي قابل للتمدد لابتلاع الفريسة كاملة. كما تحمل الفكوك أسنانا صغيرة متباعدة، ولكنها حادة جدا تستغلها لإحكام الإمساك بالفريسة قبل ابتلاعها. وفي المقابل، تدحض هذه التركيبة البنيوية لفم اللمبوكة قدرتها على قطع الأنسجة اللحمية، فأسْنانها وشكل فمها لا يمكّنانها من النهش في الجثث أو قصّ اللحم. ولذلك فمن المستبعد جدا أن تقتات اللمبوكة من الجثث بسبب طبيعتها الصيادة أولا، ولعدم قدرتها على ذلك تشريحيا ثانيا. ولكن ماذا تفعل هاته السمكة قرب الجثث؟

الارتباط لا يعني السببية
إنّ وجود الأسماك تحت الجثث لا يعني وجوبا أنّها تأكلها، فالارتباط هنا لا يعني السببيّة. تتجمّع اللمبوكة تحت أي جسم طاف، جثة كان، أو قطعة خشب، أوْ باب ثلاجة قديمة، شأنها في ذلك شأن عديد الأسماك العائمة الأخرى. أي جسم طاف عرض البحر يركّز حوْلَه الحياة. يبدأ الأمر بتركّز التّرسّبات الحيوية على الجزء المغمور بالمياه، وتتعاقب بمرور الوقت طبقات من المركبات العضوية والبكتيريا وأبواغ الطحالب. وتجلب هذه العناصر بدورها عوالق حيوانية، ويرقات الديدان، والقشريات، والقوقعيات. وهكذا يتشكل سريعا نظامٌ بيئيٌّ متكاملُ العناصر ما ينفكّ يتطوّر، ثم تأتي الأسماك الصغيرة قرب هذه الأجسام الطافية لغايتيْن. أولّها الاقتتات من تلك الكائنات الصغيرة وثانيها الاحتماء من الضواري التي قد تهدّدها من كل اتجاه وسط بحر مفتوح. وعبر ملايين السنين من التطور، أدركت اللمبوكة أنّ الأجسام العائمة تُرَكِّز الغِذَاء السَّهْل حولها. وبذلك استحال تركُّزُها حول أي شيء عائم سلوكا فطريا مسجَّلا في جيناتها.
طريقة صيد اللمبوكة
لاحظ البحارة هذا السلوك في اللمبوكة وغيرها من الأسماك، واستلهموا منه طريقة فريدة للصيْد تُعْرف اصطلاحا بأجْهزة تجميع الأسماك. فبالنسبة لسمكة اللمبوكة، يُعِدُّ الصيادون في الصيف باقات من جريد النخل يربطونها بحبال طويلة في حجارة ثقيلة أو أكياس رمل ويلقونها في البحر. ومع نهاية شهر أغسطس تبدأ سمكة اللمبوكة بالاقتراب من السواحل وتتجمع في أسراب تحت باقات الجريد. ولصيدها يتنقل البحارة من باقة لأخرى، وما ان يلاحظ وجود سمكة واحدة حتى تبدأ عملية الصيد بتطويق حزمة الجريد العائمة بشبكة دائرية صغيرة الحجم مخصصة لهذا النوع من الأسماك.

اللمبوكة سمكة شهية
تعتبر اللمبوكة من الأسماك المحببة لدى العديد من الناس لطعمها اللذيذ وسعرها المعقول. بينما يختارها آخرون لسهولة اعدادها فلا يتطلب تنظيفها نزع القشور كما أن عظامها كبيرة نسبيا ويمكن تفاديها ببساطة. يمكن اعداد اللمبوكة مشوية على الفحم مع السلطات كوجبة صيفية. أو مطبوخة على طبق الكسكسي مع خضار الصيف أو المعكرونة بصلصة الطماطم الطازجة. للمبوكة قيمة غذائية عالية، فجسدها القوي متكون أساسا من عضلات بالتالي فهي غنية بالبروتينات وبالأملاح المعدنية أيضا.
كما تعتبر اللمبوكة من الأسماك الصحية لعدم احتوائها على نسب عالية من من المعادن الثقيلة كالرصاص والزئبق. ويعود ذلك لنظامها الغذائي المتكون أساسا من الأسماك الصغيرة العائمة والتي بدورها لا تحوي هاته المعادن الثقيلة. وأيضا لعمرها الذي لا يتجاوز بضعة أشهر فقط عند اصطيادها. اذ أن تركيز المعادن الثقيلة في الأسماك يرتفع بصفة هامة مع تقدم السمكة في العمر. والأسماك التي يمتد عمرها لسنوات هي الأكثر تركيزا للمعدن السامة والملوثات في أجسادها. ونذكر من ذلك بعض أنواع التونة والقروش خاصة الكبيرة منها.
من اذن؟
على ذكر القروش، تعد هاته الأسماك المستهلك الأول للجثث في البحر. فقدرتها الكبيرة على شم رائحة الدم والأنسجة المتحللة من مسافات بعيدة تجعلها قادرة على اكتشاف الجثث الطافية والتهامها. وهي بالتالي تلعب دورا بيئيا هاما لإعادة تدوير تلك المواد العضوية. أما إذا انتهى المطاف بالجثة في قاع البحر حينها تتجمع العديد من الأصناف حولها لتتركها عظاما نقية في مدة وجيزة. بجانب عديد الأسماك القادرة على نهش اللحم، نجد خاصة أنواع من القشريات كالسلطعونات وجراد البحر وغيرهم من مفصليات الأرجل. كما نجد أنواعا من الرخويات بطنية القدم مثل البوكينوم وحتى الأخطبوط.