حيوانات بحريةمتفرقات

عنبر الحوت

يعتبر العنبر الطبيعي من أغلى المواد المستعملة في انتاج العطور و أندرها. اذ لا يتجاوز الإنتاج العالمي منه بضعة عشرات من الكيلوغرامات في السنة حسب أكثر التقديرات، تباع بمئات الملايين من الدولارات. و تعود هاته الندرة لطبيعة المادة و طريقة الحصول عليها و لتقلص أعداد حوت العنبر . و يقبل أكبر صانعي العطور على هاته المادة بأي سعر كان لرائحته المميزة و خواصه الفريدة. ولكن في البداية ماهو العنبر؟

عنبر الحوت من حوت العنبر

لوهلة قد يشعر الناس بالتقزز لعلمهم ان العنبر هو في الاصل افرازات معوية لنوع من الحيتان يتقيؤها عندما تزعجه في معدته. وقد عبر كاتب رواية موبي ديك هيرمان مالفيل عن ذلك بقوله: ” من يظن ، إذن ، أن مثل هؤلاء السيدات الجميلات ومثل هؤلاء السادة الوسيمين يستمتعون بعطر مستمد من الأحشاء المريعة لحوت العنبر المريض! ومع ذلك فهذه هي الحقيقة ” و ان كانت مسألة الافرازات حقيقية، فالأمر ليس بالضبط كذلك.

مصدر العنبر كما قلنا نوع من الحيتان يسمى حوت العنبر. وهو حيوان ضخم قد يصل طوله الى عشرين مترا و يتجاوز وزنه الخمسين طنا. يتميز هذا الحوت برأس ضخمة صندوقية الشكل يوجد أسفلها فم صغير بالمقارنة مع الرأس مجهز بأسنان كبيرة. اذ يستعمل حوت العنبر هاته الاسنان للصيد و قضم فرائسه خلافا لأنواع الحيتان الأخرى، كالحوت الأزرق مثلا، التي تصفي مياه البحر عبر زوائد كثيفة تنزل من فكوكها لتتغذى من العوالق و الأسماك الصغيرة، و تسمى هاته الزوائد ب “البالين”. و يعتبر حوت العنبر من أكثر الحيوانات الثدية قدرة على الغوص. اذ يقدر على النزول لأعماق تتجاوز الألفي متر تحت سطح الماء. كما يقدر أن يحبس أنفاسه خلال عملية الغوص لمدة تقارب الساعة و النصف. ولكن لماذا؟

حوت العنبر، لاحظ الرأس الضخمة و الندوب قرب فمه

يتغذى حوت العنبر من عديد الحيوانات القاعية مثل بعض الأسماك المسطحة وبعض الرخويات. و يفضل الرخويات من رتبة رأسيات الأرجل كالأخطبوط و الحبار و السبيضج. لكن يبقى الحبار العملاق وجبته المفضلة، و للحصول عليه ينزل الحوت لتلك الأعماق السحيقة أين يعيش ذلك العملاق. اذ تشهد الندوب التي تشاهد عادة على رأس الحوت على صراعاته مع هاته الحباريات الكبيرة و التي تنتهي عادة بهزيمة الحبار. و في بطن الحيوان، تهضم معدته كامل جسد الحبار ما عدى قطع فكيه القرنية و الحادة. و هذه بداية قصة العنبر.

كيف يتشكل العنبر؟

في حقيقة الأمر، ليست هنالك قصة مثبتة لطريقة تشكل المادة. وانما نظريات مبنية على ملاحظات علماء الأحياء عند تشريحهم لبعض الحيتان الجانحة من هذا النوع. و لتحليلهم لمكونات  العنبر ذاته، و تبقى فكوك الحبار القاسم المشترك بينها. و أهم هاته النظريات:

تحدث فكوك الحباريات غير المهضومة و الحادة ندوبا و تقرحات في أمعاء الحوت. و كردة فعل فيزيولوجية يفرز جدار الأمعاء مكان هاته الندوب مواد مختلفة تختلط مع القيح و الأحماض الهضمية و تتفاعل معها لتشكل بعد مدة من الزمن كتلة صلبة يلفظها الحوت في نهاية الأمر. ولأنها تتكون من مواد دهنية فهي تطفو على سطح الماء.

تتفاعل فكوك الحباريات المزعجة مع افرازات المرارة المتزايدة، فتتجمع مع بعضها وسط كتلة شمعية ناتجة عن هذا التفاعل و بالتالي تتوقف عن الازعاج بجرح جدار الجهاز الهضمي باستمرار و تسهل عملية إخراجها.

تتمدد أمعاء الحوت نتيجة لوجود ديدان طفيلية تتداخل معها بقايا فكوك الحباريات غير المهضومة. وتحت تأثير الافرازات المعوية تتكون هاته الكتلة الشمعية التي تحدث انسدادا في أمعاء الحيوان و تنتهي بموته بعد مدة من المرض و عدم الأكل. و عند تفكك الجثة تتحرر الكتلة لتطفو على السطح.

و لا يزال العلماء غير متفقين على طريقة خروج الكتلة الشمعية من جسد الحيوان فهنالك من يرى أن هاته الكتل لا يمكن أن تخرج الا من فم الحوت بالنظر لأحجامها الكبيرة أحيانا و بالتالي فهي تعتبر قيئا. بينما يرى آخرون أن هاته الكتل لا يمكن أن تتكون الا في أمعاء الحيوان و الطبيعي هو أن تخرج من نهاية الأنبوب الهضمي، و بالتالي فهي مادة برازية. و أما عن طريقة خروج الكتل الضخمة فهم يفسرون ذلك بالنظرية الثالثة أي بعد موت الحيوان و تفكك جثته. و رغم خروج القطع الشمعية من جسد الحوت فالقصة لم تنته بعد.

نضج الكتلة خارج جسد الحوت

العنبر الطازج مباشرة بعد خروجه من جسد الحيوان، يكون فاتح اللون، طريا و يطلق رائحة برازية كريهة جدا. و يتطلب الأمر بعض الوقت و هو طاف على سطح البحر حتى يمتلك رائحة المعروفة. رائحة مسكية ترابية حلوة حسب البعض، بينما يصفها آخرون بأنها رائحة حارة و حيوانية تذكر برائحة التبغ مع لمسة بحرية. اذ تتأكسد مركباته الأساسية الأصلية مع الهواء و أملاح البحر و تأثر فيها أشعة الشمس أيضا و خاصة أشعتها فوق البنفسجية و حرارتها بما يعرف بظاهرة التحلل الضوئي. فيتحول “العمبرين”، المكون الأساسي للمادة، الى عدة مكونات أهمها “الأمبروكس” و “الأمبرينول” اللذان يعطيان الرائحة المميزة للعنبر. و تكتسب الكتلة لونها الرمادي و تتصلب لتبدو كالصخرة العائمة.  قد تمتد هذه العملية على مدة تتراوح بين بضع أشهر و بضع سنوات.

كتلة عنبر رمادية

كيفية الحصول على العنبر و خصاىصه

كان يعثر على العنبر قديما على بعض الشواطئ  أو طافيا على سطح الماء من طرف البحارة أو الصيادين. لكنه أصبح أندر فأندر لتقلص أعداد الحيتان نتيجة لتلوث البحار. و للصيد المفرط لهذا النوع من طرف بعض الشعوب التي تتغذى على لحومها. من جهة أخرى، يجوب بعض الناس الشواطئ المعزولة و خاصة في الشتاء بحثا عن قطعة عنبر قد تكون قذفتها الأمواج هناك. و قد يستعينون في ذلك بالكلاب اذ ثبت بالتجربة أنها تنجذب لرائحة تلك الكتل الشمعية من مسافة بعيدة. 

يتم اعداد العنبر بحله في أحد المذيبات العضوية كالكحول لاستخلاص عناصره الأساسية صافية. لتضاف بعد ذلك للعطور بنسب صغيرة. بالإضافة لرائحته، يلعب العنبر دور مقويا لمكونات العطر الأخرى و يتفاعل معها ليبرز نكهاتها الخفية و يعطي للعطر رائحة غامرة و مميزة تأثر في الأحاسيس و المشاعر. لكن تأثير العنبر الأكبر هو تثبيت الروائح و جعلها تدوم لمدة طويلة. و بما انه لم تعرف مادة أخرى تجمع هاته الخصائص مع بعضها لقرون عديدة، اكتسب العنبر قيمته و سحره و لا يزال. و رغم التوصل لإنتاج مكونات العنبر كيميائيا، لا يزال العنصر الطبيعي يحتفظ بكامل سره و جاذبيته. اذ لم يعد يطلب لرائحته فقط و انما أيضا لأصالته و ندرته